أرشيف

الثورة اليمنية في وجوهها المتعددة

تشهد اليمن منذ اواخر شهر كانون الثاني/يناير الماضي انتفاضه شعبيه لا سابق لها، ويذكر التنوع الاجتماعي في أوساط المتظاهرين، والطابع السلمي للتحرك، بالرغم من أعمال القمع، بأحداث تونس ومصر، فالثورة الجارية تستند على امر واحد بسيط انما جذري (اسقاط الدكتاتور الحاكم منذ عام1978 )وتأتي لتغير صورة المجتمع العنيف والمحافظ التي عرفت بها البلاد بعد4اشهرمن المظاهرات في اليمن، ما يزال الخوف من وقوع البلد في الفوضى يشل المجتمع الدولي، لكنه يجمد ايضا عمل، بالطبع صرح وزير الخارجية الفرنسي الآن جوبيه في21اذار/مارس المنصرم، انه (لابد) من رحيل الرئيس علي عبد الله صالح، الا ان هذا النوع من التصريحات، ومثله الوساطة الاقليمية الوحيدة التي يقوم بها مجلس التعاون الخليجي، لا يغيران في الأمور شيئا، فما يهم حلفاء اليمن هو الحفاظ على النظام.حتى وان جاء ذلك على حساب سقوط الرئيس.


اضف ان في هذا الوضع مفارقه، فمنذ الاعتداء على السفينة الحربية الأمريكية (يو.اس.اس.كول) في عدن.العام2000لم يكف النظام عن استياء حلفائه، وعلى رأسهم واشنطن، اذ ان النظام السياسي والمؤسساتي الذي أرساه السيد صالح بعد ان قمع شعبه (مثلا خلال الحرب الأهلية في منطقة صعده في شمال غرب البلاد، والذي سقط فيها اكثرمن10الاف قتيل منذ العام2004(1) وبعدان استغل إلى ما لا نهاية قصة مكافحة تنظيم القاعدة (مع انه لم يتمكن من احتواء هجماتها) قد اغرق البلاد في العنف.


في العام 1990نشأت جمهورية اليمن، بعد إعادة توحيد جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (اليمن الجنوبي) والجمهورية العربية اليمنية (اليمن الشمالي) الا ان هذا التوحيد قد تزعزع في العقد الأول من الألفية الثالثة بفعل تمرد الحوثيين (2) في محيط منطقة صعدة، ونشاط حراك انفصالي جنوبي، في ان معا، من ناحية أخرى بات الاسلاميون المسلحون منذ العام2007يستهدفون مباشرة السلطة وقوات الأمن، هكذا فان الأزمة الخطيرة التي يجتازها نظام الرئيس صالح لم تبدأ حقيقة في العام2011، بداية تأجلت الانتخابات التشريعية التي كانت مقرره في نيسان/ابريل العام2009بسبب العراقيل السياسية والمؤسساتية.والمعارضة الجنوبية التي تجمعت في (اللقاء المشترك) الذي يضم خصوصا الاشتراكيين (الذين حكموا سابقا جمهورية الجنوب) والأخوان المسلمين في حركة الإصلاح.راحت منذ سنوات توجه من دون هواده انتقاداتها للنظام، واختارت استراتيجيه المقاطعة بالرغم من هذه المآزق السياسية ظللت السلطة تستفيد في اواخرالعام2010من دعم المجتمع الدولي، هكذا ظهرت هذه السلطة واثقة من المستقبل.واستعدت لإقرار قانون في البرلمان يسمح للسيد صالح ان يعاد انتخابه الى ما لا نهاية لرئاسة البلاد.فيما كان ابنه احمد علي صالح المسئول العسكري يتحظر لوراثته.


مهدده بأن يطبق عليها


ثم جاءت اليقظة العربية، التي انطلقت من تونس ومصر.لتثير حمية الحركات المعارضة وتعجل في تفكك بنى سيطرة الدولة، وقد اذكت الشبيبة المستقلة عموما من الأحزاب السياسية نار الثورة في المدن الكبرى مثل صنعاء وتعز وعدن.لم تنظم أحزاب المعارضة الى هذه التحركات الا في مرحله ثانيه، لتحاول عندها تبنيها واستقطاب اولئك الذين اعلنوا انفسهم (شباب الثورة).


وفي شهري اذار/مارس.ونيسان/ابريل توحدت الشعارات الى حد كبير.وكذلك أشكال الاحتجاج.فقد تلاقي المناضلون الحوثيون وأهل الجنوب ومحازبو المعارضة والمجتمع المدني، ورجال القبائل والإسلاميون والليبراليون.على المطالبة بإسقاط النظام على الأخص أمام جامعة صنعاء عند تقاطع طرق أطلق عليه اسم (ساحة التغيير(3))


وبعد مجزرة صنعاء في18اذار/مارس.راح ضحيتها52متظاهراأهتزالنظام بسبب العديد من الاستقالات، سواء في صفوف الحزب الحاكم (المؤتمر الشعبي العام) ام في ماله دلاله اهم، في صفوف الحكومة ووسائل الأعلام العامة والجيش، فاللواء علي محسن الذي كان مقربا من الرئيس والمعروف بتعاطفه مع الإسلاميين الراديكاليين، والمكروه في وسط الشبيبة، قد انظم حتى إلى هؤلاء.واعدا إياهم بالحماية قبل ان ينشر قواته حول منطقة الاعتصام، في صنعاء.هكذا كشف هذا الالتحاق ما في صلب النظام من تصدعات داخليه.وأضفى بعدا جديدا على انتفاضه مهدده ليس فقط بأن يتم الأطباق عليها بل بأن تتخذ طابعا عسكريا أيضا، وقد ابرز التحاق اللواء محسن توترات واضحة في أوساط المتظاهرين: فقد ذكر بأنه قد يتم استغلال الانتفاضة كمنصة للمنافسين التاريخيين للرئيس صالح، كما ابرز هشاشة خيارها السلمي، مع انه تم الالتزام به حتى الآن


الرئيس صالح راح يتقلب في مواقفه.ويتظاهر بأنه وافق على اتفاق تم التوصل إليه أواخر نيسان/ابريل، عبر وساطة ملوك وأمراء الخليج، ثم يرفض ان يوقعه ولم يكذب بهذا ما وصف به من انه بارع في التكتيك، كما برهن عن قدراته على تجييش مناصرين لينبه على تفاوت الوسائل التي يملكها كل من الفريقين، وعبر كسبه الوقت، نجح في زرع الشك والفتور في نفوس المتظاهرين، كما في اوساط الصحفيين والمراقبين الأجانب، وحاول الرئيس ان يستفيد من التفاوت الواضح بين الشبيبة المعبأة في الشوارع وبين نخب المعارضة الحزبية هكذا وافق(اللقاء المشترك) على الإبقاء على حصانة السيد صالح ومقربيه، بموجب ضمانة دول الخليج.فيم رفض ذلك الشباب الذين تم إبعادهم بشكل واسع من المفاوضات، وهؤلاء الشباب ظلوا مرتابين تجاه استراتيجيات التحالف وخصوصا تجاه السيد حميد الأحمر(وهو وريث زعامة إحدى القبائل النافذة)وحزب الإصلاح الذي يتزعمه، الذي راح يحاول تدريجيا السيطرة على أجواء التحرك(4)، شعار (ارحل) الذي يردده المتظاهرون.لا يشكل بأي شكل من الأشكال برنامجا، ولا يساعد على الأرجح على معالجة كل أزمات البلاد دفعة واحده.خصوصا في مسألة الهوية التي تطرحها منذ عام 2007الحركه الإنفصالية في اليمن الجنوبي سابقا كما انه لن يساعد على الغاء حالات عدم المساواة الاجتماعية ولا على تقديم حلول فوريه للمشاكل الاقتصادية او لمسألة نضوب الموارد الطبيعية


كما انه لا يمكن التغاضي عن التحدي الأمني.فالخوف من رؤية المجموعات المسلحة، وخصوصا تنظيم (القاعدة) في شبه الجزيرة العربية تستفيد من الفراغ السياسي ، وإعادة النظر ببعض مكتسبات التعاون في مجال مكافحة الإرهاب بعد سقوط جماعة صالح، يفسران القلق الدولي.فمنذنهاية2009ساهمت عمليات القصف الأمريكية الكثيرة التي استهدفت تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية في المزيد في افساد شرعية النظام، مع انها لم تؤثر في الوقت ذاته الا بشكل هامشي على قدرة التنظيم على التحرك.وفي مدار هذا التنظيم، برزت عدة شخصيات قادرة على الاضطلاع بالزعامة العابرة للحدود التي فرغت باغتيال أسامه بن لادن، ومن بين تلك الشخصيات هناك انور العولقي، وهو امريكي من اصل يمني، فبعد اقل من اسبوع على مقتل زعيم تنظيم القاعدة في باكستان، كان هذا الأخير هدفا لعملية قصف فاشلة من طائره بدون طيار في منطقة شبوه.


من ناحية أخرى فأن هناك مخاطر في تفتت البلاد، اذ ان مصادر الشرعيه (الحزبية والقبلية والدينية والسلالية.الخ) وجبهات المعارضة قد تضاعفت منذ بضع سنوات.فما وراء الوحده الظاهرية للشارع، ما يواجه صالح فعلا هو حركه مشرذمة قابله للتفجر، وقد يتبين ان التنافس بين النظام والمعارضة، كما داخل هذه المعارضة ايضا، او في صفوف الجيش، قد يكون مكلفا.فبالرغم من انفصال العديد من العسكريين ومن زعماء القبائل، ما يزال الرئيس قادرا على الإمساك بقوه بالجيش والكثير من أجهزة الأمن التي يتولى إدارتها مقربون منه، هكذا في شهر نيسان/ابريل، وقعت صدامات محصورة بين فرقة المدرعات الأولى بقيادة السيد علي محسن، والقوات الموالية لصالح، وقد تصبح اية مواجهه مباشره مكلفه إلى أقصى الحدود


يدرك اليمنيون جيدا مخاطر تدهور الأوضاع على كل فأن حالة من توازن الرعب قد باتت قائمة لكنها ساهمت ايضا في تأخير عملية التغيير لدرجة انها جعلتها غير مضمونة النتائج، فمنذ4 اشهر تنظم العاصمة صنعاء، كل يوم جمعه تجمعات حاشده تمنح الرئيس فرصه للإعلان عن (شرعيته الدستورية).


اعتصام دائم في الشوارع


الا ان هذه التحركات المضادة، المرتهنة بقوه للشبكات الزبائنيه للنظام تبدو باهته بالمقارنة مع التحركات العفوية الكثيفة واليومية التي يقوم بها المعارضون في مجمل أنحاء البلاد، ذلك انه في قلب المدن كما في القرى او الساحات المسماه (ساحات التغيير) او (ساحات الحرية) توصلت فاعليات هذه الثورة والشباب بدرجة اولى الى قلب قواعد اللعبة السياسية ذلك ان حركة الاحتجاجات قد انتظمت تدريجي احول مساحات معينه او فعاليات او سياسات تميزت بطابعها التجديدي حتى وان كانت مستوحاة من تجارب سابقه ومتنوعة


وهكذا نجد ان السيدة توكل كرمان، المناضلة في مجال حقوق الإنسان والمقربة من الإسلاميين، قد اضحت احد رموز الثورة الناشئة، وترافق صعود جيل سياسي جديد، تشارك اجتماعيا عبر الحدث التأسيسي لحركة الاحتجاج، التي اندلعت في اواخر كانون الثاني/ينايرالعام2011، مع تحول عميق في العلاقة مع السياسي ومع منطق النشاط الاجتماعي المشترك، لكنه ترافق ايضا وبشكل أوسع مع تحول في المجتمع، وإذا ما سلمنا انه لا يمكن فهم مسار ثوري الا بعد فتره طويلة فأن هذه التجربة الاحتجاجية غير المسبوقة تحث على اعتبار وجود افاق سياسيه قويه لهذه الانتفاضة ستكون كفيله بالحد من العديد من الانقسامات


فقد تحولت التحركات الأولية التي كانت عبارة عن مسيرات ومظاهرات تجري بشكل أساسي في الصباح او المساء الى اعتصامات دائمة، وفي20شباط/فبراير المنصرم قرر عشرات الأشخاص ان ينصبوا خيامهم ويمضوا ليلتهم الأولى امام جامعة صنعاء، وعلى منوالهم سارت سائرا لبلاد، مما ادى تدريجيا الى احتلال الساحات والشوارع ثم احياء بأكملها، وذلك بمقدار ما كان عدد المخيمين ، يزداد وسرعان ما رتبت هذه الأماكن ودبت فيها الحياه فراح الباعة والمتجولون يبيعون فيها، بينما تالفت مختلف انواع اللجان التنظيمية.


وقد شجعت هذه الحركة على تنوع أشكال التعبير عن الاحتجاج، الشعارات.الصور المركبة،الأغاني الثورية، العروض المسرحية، القصائد، المعارض،المحترفات الفنية، السهرات الاحتفالية والعائلية حول المنصات، إضافة الى الصحف ومواقع الانترنت والجماعات الاهلية والمحاضرات وجلسات الأعداد للعصيان المدني.


وبشكل غير متوقع الى حد ما انظم رجال القبائل بالآلاف الى الاعتصامات، متخلين عن سلاحهم بعد ان اختاروا النضال السلمي، وكان من شان هذه لاستراتيجيه الجديدة ان اسقطت الصور الاجتماعية النمطية المكونه عن القبيلة والممارسات المعهودة لدى القبائل والتي غالبا ما كانت تختزل بطابعها المحافظ وبالتخلف والعنف لتعيد موضعه إشكال التضامن التي تميزها في صميم مسار التغيير.


وفي الوقت نفسه جاء الشباب بوجه جديد مسيسون وانما غير حزبيين تعدديون ومستقلون، وفي ساحات الاعتصام، فرضت ألوان العلم والحان النشيد الوطني نفسها لتنوب عن الرموز المذهبية او المناطقية المعروفة في التحركات السابقة، وهذا ما دفع الكثير من المراقبين والفاعليات، الى التساؤل أليس ان وحدة اليمن التي كان يخشى عليها من التفكك، هي بالأحرى في طريقها الى الترسخ، فعلى عدة مستويات اتى انتشار التظاهرات وتزامن مختلف حركات الاحتجاج ظاهريا لكي يعزز فكرة انصهار الثورة ولفتت الحوارات واللقاءات بين مختلف التجمعات المناطقية، الانتباه الى إعادة توازن جديدة بين المناطق في حركة الاحتجاجات وأبرزت الدور الرئيسي الذي تلعبه مدينة تعز في الترويج للمشروع التوحيدي والدفاع عنه


وايا تكن الرهانات المستقبلية، لم يعد هناك من شيء يمكنه ان يغطي قوه الطموحات وحجم التحولات المتجسدة في الانتفاضة الشعبية فقد تحققت في هذا المجال نجاحات بات على اليمنيين هم أنفسهم ان ينموها لكي لا يفوتوا الفرصة التي توفرها.


باحث في العلوم السياسية في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى


– تحضر دكتوراه في معهد للدراسات السياسية في إكس ان بروفانس.


– بيار برنين: “الحروب الخفية في اليمن ” لوموند ديبلوماتيك “النشرة العربية.


– 2- نسبة إلى اسم زعيمهم حسين الحوثي، وهو نائب سابق قتل في 2004 وقد خلفه شقيقه عبدالملك الحوثي.


– 3- خلال الاحداث التي وقعت في ساحة التحرير في القاهرة نزل إلى الساحة التي تحمل الاسم نفسه في صنعاء انصار النظام وتموضعوا فيها بكثافة,


– فكري قاسم :حديث المدينة تعز 20- 2- 2011


– توكل كرمان ثورتنا تقوم بما لم يستطيع صالح أن يفعله توحيد اليمن صحيفة “ذي غارديان” لندن” في 8- 4- 2011.


عن “لوموند ديبلو ماتيك” – النشرة العربية.
لوران بونفوا – مارين بوراييه

زر الذهاب إلى الأعلى